قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
[وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد فهو أيضاً ممكن بل واقع فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه، فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إِلَى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته، وسر المسألة: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه والذي إِلَى العبد مكروه] اهـ.
الشرح :
نوضح ما ذكره المُصنِّف بمثال: وهو أن إنساناً له قريب لا يصلي، فإن هذا الإِنسَان يكره هذا العمل كراهية شديدة، ويكره هذه المعصية من قريبه ويتألم من وقوعها منه، لكن إذا جَاءَ أحد فَقَالَ له: يا أخي هذا كله بقدر الله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نصبر عَلَى أقدار الله، فإذا كَانَ أبوك لا يصلي أو أمك لا تصلي فلا بد أن تصبر، فهذا قدر الله وهذا أمره، فارض بما كتب الله: أما وقوع المعصية من جهة العبد فليس بمرضيٍ، لكن وقوعه من جهة أقدار الله تَعَالَى مرضي، فنحن نرضى به.
ثُمَّ قَالَ: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان] ولو قال: من أهل الإيمان لكان أفضل، وهم الذين قالوا: نرضى بكل ما هو من جهة الله وقدره، ونسخط المعاصي من جهة العبد، [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إلى القول الأول] فكرهوها من جهة أنها معصية لا من جهة أنها قدر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: [لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته] وإنما يريدون أنها مخالفة شرعية لأمره ونهيه، وهذا هو سر المسألة وخلاصتها: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه، والذي إِلَى العبد مكروه.

وهذان القولان: القول بالرضى، والقول بعدم الرضى وأنهما يرجعان إِلَى أصل واحد، يذكرنا بما سبق في حديث احتجاج آدم وموسى لما قال: {أنت موسى الذي كلمك الله، واصطفاك برسالته، وكتب لك التوراة بيده، تلومني عَلَى أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة، فَقَالَ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى}.
وهذا الحديث لا حجة فيه للجبرية الذين يقولون: نعمل المعاصي ونقول: قدر الله ذلك، لأن هناك مصيبة وهناك معصية، فالمعصية هي أكل آدم من الشجرة، والمصيبة هي: الخروج من الجنة.
فموسى عَلَيْهِ السَّلام لامَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى المصيبة لا عَلَى المعصية، فاحتج آدم بالقدر عَلَى المصيبة، والاحتجاج بالقدر عَلَى المصيبة جائز وصحيح، وبعض العلماء قالوا: الذنب أيضاً يحتج بالقدر عليه من جهة وقوعه قدراً، وهذا الوجه هو الذي يناسبنا هنا، فآدم لم يحتج عَلَى الذنب من جهة أنني أعمله وأستمر -كما فعل إبليس- ولكن من جهة وقوع المعصية بقدر الله عَلَى الجهة المكروهة.

فخلاصة المسألة: العلم بأن ما كَانَ منها إِلَى الله فهو غير مكروه وليس فيه شر، وأن ما كَانَ منها -من أفعال الشر التي يفعلها الخلق- بالنسبة إِلَى العبد فهو مكروه، فالكراهة جاءت من فعل العبد ومن عمله
والتساؤل الثالث: